ساحل السنديان على الفيسبوك

الاثنين، 21 أكتوبر 2019

النحات وليد محمود حلم الحجر اللذي بقي حلماً

نص حديثي الذي أذيع صباح اليوم على هواء سوريانا إف إم ===============================
بوح الكلام – سوريانا إف إم 
خمس سنوات على "حلم الحجر "
*حسن م. يوسف


في مثل هذا اليوم قبل خمسِ سنوات، كان النحاتُ الصديق وليد محمود الذي اختار لنفسِهِ اسماً موازياً هو (حُلُمُ الحجر) عائداً من اللاذقية إلى جبلة، بعد أن وزع دعواتِ افتتاحِ معرِضِه، كان الطقسُ عاصفاً ماطراً، وفي مثل هذه الظروف، تتشكل تجمعاتٌ مائية، لا مساربَ لها، خلف منصفِ الأوتوستراد، ويبدو أن الدولابَ الأيسر للسيارة قد اصطدم بإحدى تلك التجمعاتِ المائية، فكبحته، دون الدولابِ الأيمن، مما أدى لانحرافِ السيارة واصطدامِها بالمنصف، فانقلبت وتوفي الفنان وليد محمود.
قبل حوالي عشرة أيامٍ من وفاتِه، زارني النحات وليد محمود معزياً بأخي الحبيب وفيق، حدثني عن خيبتِهِ ببعضِ المثقفين الذين فشلوا في تجارةِ الأحلام، فتحولوا الى تجارةِ الكوابيس. ولأن كل دروبِ النحات، تفضي الى الحجر، كان من الطبيعي أن يأخذني وليد محمود الى حلمِهِ "حلم الحجر"، الفريد المليء بالسحر. 
 في البداية، لم يخف وليد عدمَ إعجابِهِ بالنحاتين الذين ينجزون عمَلَهم بمساعدةِ الطبيعة، وقال لي بشيء من المباهاة، إن الكتلةَ التي يحب هو أن يتعاطى معها يجب أن تكون ذات طبيعة أنانية، لأنه كنحات لا يسمح للطبيعة أن تتدخلَ في شغلِه، لذا يختار أن يبدأ عملَهُ على مكعبٍ من البازلت ممسوحِ المعالم، كي لا تتحكمَ الكتلةُ به وتأخُذَه إلى حيث تريد هي، بدلاً من أن يحصلَ منها هو على ما يريد.
كذلك لم يخف وليد كراهيتَهُ للحجرِ اللين "لأنه مخادع"، مثل ذوي المواقفِ المائعة، فيما يرى إلى الصخرِ القاسي على إنه عدوٌ شهم، وهو من خلالِ اشتغالِهِ على الصخرِ القاسي يقوم بتحويلِهِ من عدوٍ شهم إلى صديق، فإذا ما أعطيتَ ذلك العدوَّ الشهمَ أقصى ما لديك من حب، أعطاك أقصى ما فيه من جمال.
سألت وليد كيف تتطور العلاقة بينه وبين كُتلة البازلت ذات المعالمِ الممسوحة، فباح لي بأنه يتعامل معها كما يعامل العاشقُ حبيبتَهُ، إلى أن تبوح له بالفكرةِ المختبئة فيها. وعندما يحصَل ذلك، يصبح دورُهُ هو إزالةُ الزوائدِ المحيطةِ بالفكرة، لنقلِها من المجرد إلى الملموس. 
عرض علي وليد مجموعةَ صورٍ لآخرِ المنحوتات التي أنجزها، ودعاني مجدداً لحضورِ افتتاحِ معرضِهِ "جباليا" الذي كان من المقرر أن يقام في مدينة جبلة يومَ رحيلِه.
توقفت عند منحوتتيه، دمشق وسورية، اللتين تتجاوز الأنثى فيهما طبيعَتَها كإناءٍ للخلق، لتتماهى بالمدينةِ والوطن. وقد راقني كلامٌ كُنت قد قرأتُه منسوباً له يشبِّه فيه المرأةَ بالحجر، من حيث الديمومة والجمال والدفء، لأن الله أعطى المرأةَ رمزيةَ الخلق. وهو ينظُرُ الى الحجر كشبيهٍ بالمرأةِ الأم.


اقترحت عليه أن ينجزَ عملاً عن ليلءيت الأنثى الأولى ابنةِ الهواءِ النقيِ الصافي، ذاتِ الشعرِ الطويلِ الفاحم، التي قررت أن تترُكَ الجنةَ بمحضِ إرادتِها ورفضتِ العودةَ إليها. 
أبدى النحات وليد محمود حماساً هائلاً للفكرة، فحدثته عن كتابين يتعلقان بهذا الموضوع، الأول هو "يوم كان الرب أنثى " للباحثة الأمريكية مارلين ستون، ترجمة الباحث حنا عبود، والثاني هو "ليليت والحركة النسائية الحديثة " وهو امتدادٌ للكتابِ السابق ومن تأليف حنا عبود. 
أكد لي وليد أنه يعيد الكتبَ التي يستعيرُها، ولم يكن أيٌّ منا يعلم أن القدرَ كان له رأيٌ آخر. إذ بعد يومين ذهبت الى بلدتِهِ سلمية، لا لتحقيقِ رغبتي القديمة في رؤيتِهِ وهو يعمل على صخورِهِ القاسية، بل لتقديمِ واجبِ العزاء به.
لمناسبةِ مرورِ خمسِ سنواتٍ على رحيلِه، أستطيع القولَ إن النحات وليد محمود مبدعٌ سوريٌ صميم مشبعٌ بجمالياتِ هذه الأرض، ويملُكُ موهبةً عظمى، وقد كان من شأنِهِ أن يجبرَ العالمَ على فتحِ عيونه على اتساعِها فيما لو أسعفه الوقتُ لتحقيقِ حُلُمِهِ النحتيّ، في الوصولِ الى الفراغِ الحر والكُتلةِ المعلقة. 
لقد كادت تجمعاتُ المياه غير مرة أن تفقدني السيطرةَ على سيارتي أثناء تنقلي بين دمشقَ واللاذقية خلال السنوات الماضية، وقد لاحظت مؤخراً أنه قد تم استبدالُ بعضِ المنصفاتِ المغلقة بمنصفاتٍ فيها مساربُ للمياه، بين طرطوس وحمص، وكُلي أمل أن يتمَ تعميمُ هذه التجربة، كي لا تتسببَ تجمعات الماء بمزيدٍ من الخسارات الكبرى كخسارةِ النحاتِ العبقري وليد محمود.


ساحل السنديان ٢٠١٩

لروح النحات وليد محمود و لأخيه طارق الطيب من ساحل السنديان أطيب تحيه 

0 التعليقات:

إرسال تعليق