ساحل السنديان على الفيسبوك

الخميس، 3 سبتمبر 2015

مدينة مصياف في مقال شامل

ذكرت مدينة مصياف في أكثر من مرجع و معجم و تعددت الأسماء فيها ، ربما كان أشهرها ما ذكره يا قوت الحموي (1) باسم مصياب : حصن حصين مشهور للإسماعيلية بالساحل الشامي قرب طرابلس و بعضهم يقول مصياف .
و ذكرها أبو الفداء الأيوبي (2) مدينة مصياف : هي بلدة جليلة و بها أنهر صغار من أعين و لها بساتين ، و لها قلعة حصينة و هي مركز الدعوة الإسماعيلية ، و مصياف عن بارين ” بعرين ” في جهة الشمال على مسافة فرسخ ، و عن حماه من جهة الغرب مسير يوم .
و ذكرت في مصادر أخرى باسم مصياد نسبة إلى مواسم الصيد الكثيرة فيها ، كما ذكرت باسم مصياط في مصادر أخرى . قد يعود تعدد الأسماء بخلاف التسمية الأساسية ” مصياف ” ، أن النقل الكتابي قد أتى بعد النقل السماعي عن اللهجة المحكية العامية في المدينة ، فاللهجة العامية المتداولة في المدينة تعتمد على تسكين مخارج الحروف و مدها مع إخفاء جزئي أو كلي في بعض الأحيان لآخر حرف من الكلمة ، خاصة في التسميات التي جاءت بمصياف على شكل ( مصياط – مصيات – مصييت ) ، كما هو الحال في تسمية جبل المشهد في مصياف باللهجة العامية ليصبح ( جبل المشيد ) أو ( جبل المشيد علي ) و المقصود هو جبل المشهد العالي
 لمحة عن المدينة :
تتبع مدينة مصياف إداريا إلى محافظة حماه في الجمهورية العربية السورية . و تبعد عن حماه حوالي 47 كم باتجاه الغرب ، و عن مدينة حمص 55 كم باتجاه الشمال الغربي وعن مدينة دمشق العاصمة قرابة الـ 225 كم باتجاه الشمال . عند تقاطع  خط العرض 35 شمالاً مع خط الطول 36 شرقاً.
ترتفع المدينة عن سطح البحر 505 متر (3) ، فيما ترتفع الجبال المطلة على المدينة إلى أكثر من 1000 متر ( يرتفع جبل المشهد إلى 1027 متر مثلاً ) .
يبلغ تعداد سكان مدينة مصياف حسب إحصائيات عام 2004 الرسمية 67.908 نسمة (34.404 ذكور – 33.504 إناث ) و بلغ عدد الأسر فيها 13.231 أسرة (4) ، بعد أن كان حوالي الخمسة آلاف نسمة منتصف القرن الماضي .
يعمل معظم سكان البلدة في المجال التجاري الخدمي البسيط و في وظائف القطاع الحكومي ، فيما لا تكاد تذكر نسبة العاملين في المجالين الزراعي أو الصناعي أو حتى في المجال الحرفي . تختلف الحالة بالنسبة لسكان الريف الذي يعمل قسم كبير منهم في مجال الزراعة ، و بعتبر القمح و القطن و الزيتون أكثر المحاصيل الزراعية انتشارا ، مع وجود مساحات واسعة مزروعة بالخضار و الفواكه و الحمضيات .
 
تمتاز المدينة بمناخ متوسطي ، و بهواء يشتد في معظم شهور السنة و يتوقف في شهور الخرس / بداية الخريف من كل عام نتيجة الفتحات الجبلية الواسعة فيها ، و يبلغ معدل أمطارها السنوية 1000 ملم .
 تمتاز بطبيعة جبلية غنية بالعشبيات و أشجار السرو و الصنوبر و السنديان و البلوط . و رغم قلة الحيازات الزراعية حاليا من قبل سكان البلدة إلا أنها غنية بأشجار الزيتون و التين و الكرمة البرية . إذ تتصف الجبال المطلة على البلدة بكثرة المدرجات الزراعية التي اعتمدها السكان لتأمين احتياجاتهم الزراعية .
تسود التربة الكلسية الخفيفة الفقيرة عضويا و قليلة العمق معظم المسطحات الجبلية ، و هي أكثر خصوبة في السهول المقابلة لها . و تعاني التربة من الانجراف الدائم بسبب الأمطار من جهة ومن الرياح من جهة أخرى ، كما أن هناك تشكلات صخرية كلسية كبيرة تتوزع في أكثر من منطقة محيطة بالمدينة .
تنتشر في جبالها الكثير من الينابيع التي تتفجر ربيعا بعد فصل الشتاء ، و هي عادة ما تكون قليلة العمر قصيرة الأمد ، و منها ما يستمر حتى نهاية فصل الصيف .
كانت غنية سابقا بحيوانات برية كثيرة منها الدب الجبلي – الخنزير البري – الغزال الجبلي – و الذئاب و الثعالب و الضباع – إضافة للأرانب و السناجب ، إلا أن الصيد الجائر و الرعي العشوائي سبب غيابا كاملا لكل هذه الحيوانات تقريبا ، وقد اختفت تماما مظاهرة تربية الدواجن بعد تحضر المدينة ، إذ كانت تحتوي على الأبقار و الخراف و الماعز بشكل رئيسي .
 تشرف مدينة مصياف على سهل الغاب بالكامل و على الهضاب الداخلية ( هضبة حمص و حماه ) ، و تعتبر البداية الطبيعية لجبال الساحل الغربي . فكان موقعها نقطة التقاء بين جبال شاهقة و هضاب واسعة منبسطة ، و مكنها ذلك بان تكون من المناطق الإستراتيجية الهامة في المنطقة .
في منتصف المدينة تقبع قلعتها الشهيرة المسماة باسمها ، و هي معلم تاريخي مهم ، و يحيط بالمدينة سور تاريخي يعود إلى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ، و من الأسوار القليلة القائمة المتبقية في سوريا ، كما أنها تحتوي على الكثير من الرموز التاريخية و الحضارية و فيها عدد من الولاة و الأطهار مدفونين فيها ، خاصة في جبل المشهد الذي يضم عدد من أصحاب و جامعي رسائل أخوان الصفا و خلان الوفا المعروفة ، و على رأسهم الإمام أحمد الوفي ، رغم أن هذا غير مؤكد ، كما يتوسط السراي مدينة مصياف القديمة و الذي يعود تاريخه إلى عام 1813م أيام الاحتلال العثماني ، و فيها منتزه الوراقة المعروف الذي يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي .



 تاريخ المدينة :
 يعود تاريخ مدينة مصياف و قلعتها إلى عام 44 ق.م ، إذ كان عهد الرومان في تلك المرحلة غني ببناء القلاع و الحصون في السلسلة الجبلية الساحلية ، مثل قلعة الأكراد / قلعة الحصن – قلعة عكار – الخوابي – المنيقة – القدموس – مصياف – صهيون / صلاح الدين الأيوبي – برج سليمان ، ” إن البيزنطيين وجدوا قلعة مصياف قائمة من العهد الروماني الأسبق عندما ركزوا وجودهم في بلاد الشام معتمدين على مراكز عسكرية كالقلاع و الحصون “(5) . و لكن لا يوجد تاريخ محدد لقيام مدينة مصياف أو قلعتها على وجه الدقة ، رغم العثور على مقتنيات أثرية لاستيطان بشري قديم جدا في مصياف يعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد في تل النحاس / تل الشيخ محمد الذي يبعد عن المدينة حوالي 3.5 كم ، و كذلك تل الورديات الذي يبعد عن المدينة حوالي 9 كم شرقاُ ، و يمكننا التوغل عميقا في التاريخ البشري لنصل إلى الإنسان الـ ” نياندرتال ” الذي عاش قبل 35 ألف سنة مضت ، بالعثور على مستحثات هياكل عظمية ( يعتقد ) أنها تعود له في المغارات الكارستية الموجودة في قرية البيضا جنوب مدينة مصياف بـ 2 كم .
 
 أقام الآراميون فترة طويلة من الزمن في منطقة الهلال الخصيب ، لكن لا يوجد أي أثر يدل على تلك الحقبة الزمنية ، و إن غابت آثارهم المادية في المنطقة فإن أثاراهم اللغوية لا تزال حتى يومنا هذا ، و لهم الكثير من المفردات العامية المستعملة حتى هذا اليوم ، مثل : شمط / قلع ، بح / نفاذ الشيء  ، شقف / كسّر ، تشتطح / تمدد ، جوا / في الداخل ، لطش / أخذ بالقوة ، بوري / أنبوب ، منيح / كويس ……. إلخ .
تعاقبت على مدينة مصياف الكثير من الأنظمة السياسية و العسكرية حتى شملها الفتح العربي الإسلامي عام 636 م بقيادة أبي عبيدة بن الجراح سلماً زمن الخليفة عمر بن الخطاب . و في زمن الحكم الأموي ضمت مدينة مصياف إلى أجناد حمص .
عند قيام الدولة العباسية عام 750 م و بدء ضعف دولتهم ، تداخلت الصراعات الجيوسياسية في كثير من المناطق و كانت بلاد الشام أكثرها تأثرا بذلك ، خاصة مع بداية القرن العاشر الميلادي ، حيث كانت مدينة مصياف ترزح بين يد الإخشيديين مرة و بيد الحمدانيين مرة ، لتستقر بيد الحمدانيين و قائدهم سيف الدولة الحمداني حتى عام 969م ، حيث عقد اتفاق بين الحمدانيين و البيزنطيين بقيادة ” نقفور الثاني فوكاس ” الذي لقب بـ ” الموت الشاحب للعرب ” لنقل السلطة في قلعة مصياف للبيزنطيين ، و استمرت كذلك حتى عام 995 م (6) .
 استولى السلاجقة على المدينة بعد عام و بقيت بأيديهم حتى عام 999 م ، حيث عادت من جديد إلى يد الصليبيين ، الذين وقعوا اتفاقا بين كونت طرابلس و طغتكين أتابك / سيد دمشق نص على حماية مصياف من الغزوات الصليبية لقاء جزية سنوية(7) .
انتقلت مدينة مصياف بعد ذلك ليد بني مرداس عام 1029م و استمرت بيدهم حتى عام 1127م ، و عندما وصل الصليبيون إلى مشارف مصياف ( تل الشيخ غضبان ) من جهة نهر الساروت في 22 كانون الثاني 1099 قدم أميرها ( و كانت بيد بني مرداس ) معاهدة تقدم بموجبها مصياف المؤن و الأدلاء و مبالغ مالية مقابل عدم تعرض الصليبيون لمصياف ، فقبلوا واجتازوا مصياف نحو مدينة الرفنية(8) .
في عام 1127 م قام المرداسيون ببيع قلعة مصياف لأمراء بني منقذ أمراء شيزر ، الذين أسسوا دولتهم عام 1081م . عندما قوي النفوذ الطائفة الإسماعيلية في المنطقة عموما ( بين القدموس و الخوابي و الكهف و مصياف ) قرروا تشكيل كيان سياسي بهم يضم أماكن تواجدهم ، فقاموا بشراء قلعة القدموس من ابن حمرون ، و احتلوا قلعتي الكهف و الخوابي ، و حاولوا شراء قلعة مصياف من أمير منقذ لكنه رفض ذلك عدة مرات ، فدبروا اغتياله (9) و ضمت قلعة مصياف عام 1141م إلى الدولة الإسماعيلية الناشئة التي أعلنت في هذه السنة و أصبحت مصياف عاصمتها و مركزها التجاري و العسكري .
كان لموقع مصياف الاستراتيجي دور هام في جعلها عاصمة لهذه الدولة ” لأهمية موقعها بين دمشق و طرابلس في منطقة جبل اللكام ، هذا فضلا عن جمال الطبيعة حولها ، فقد كانت محاطة ببعض الحدائق الغناء ، بالإضافة لقربها من نهر العاصي و كانت – فوق ذلك – تتوسط قلاع الإسماعيلية في تلك المنطقة ” (10) .
كان ( بهرام بن موسى ) أول زعيم لهذه الدولة تلاه الشيخ أبو محمد ( شهاب الدين أبو الفرج ) و كانت هذه الدولة تمتد لتضم قلعة القدموس و قلعتي العليقة و المنيقة ( التي ضمت للدولة الإسماعيلية عام 1150م ) إضافة لقلعة الكهف و الخوابي و برج الرصافة ، لكنها لم تكن مستقلة ( كونها ذات منشأ ديني ) عن قلعة ألموت في إيران ، حتى استلم  سنان راشد الدين ( شيخ الجبل ) قيادة الدولة 1164م و فصلها عقائديا عن ألموت و أصبحت بذلك دولة مستقلة تحارب من أجل بقائها .
تعددت الروايات حول مكان ولادة سنان راشد الدين ، لكنه تثقف عقائديا في قلعة ألموت في إيران زمن الإمام القاهر بقوة الله ، ثم غادر ألموت متجها إلى بلاد الشام حيث أقام في حلب فترة و في ريفها فترة ، و تابع و أشرف على أتباع العقيدة الإسماعيلية هناك ، إلى أن وصل أخيرا لمدينة مصياف بعد مروره على قلعة الكهف و القدموس ، و في قلعة الكهف قدم نفسه ( متخفيا ) كطبيب يعالج المرضى و يعلم الأطفال القراءة و الكتابة ، و أطلق عليه اسم ( الشيخ العراقي ) ، فأحبه الناس لما أبداه لهم من قوة في العلاج الطبي و من رجاحة العقل و سداد الرأي ، إذ كان سنان يتمتع بين أتباعه بصفات دينية و دنيوية هامة ، فقد كان شاعرا عالما قارئا نهماَ للمعرفة و علوم الدين و الدنيا ، و كان بارعا في الفلك و الرياضيات إضافة للطب و كان شاعرا بليغ اللسان ، و إضافة لما سبق فقد كان له منزلته الدينية بينهم فهو إمام معصوم و مطاع فيهم لا يخلف له أمر و لا يفشى له سر فهو زعيم روحي أوحد .
أسس سنان راشد الدين الدولة الإسماعيلية القوية ، و كانت فترة حكمه فترة ذهبية لمدينة مصياف خاصة و للدولة الإسماعيلية عموما ، إذ ربط دولته ربطاً محكاً عبر سلسلة من القلاع المنتشرة في مساحة دولته الصغيرة و أنشاء أبراجاً لهذه الغاية ( برج القهرة / القاهر ) ، و كان حمام الزاجل و الإشارات الضوئية و النار مصدر تواصل سريع بين زوايا دولته .
و بنى سنان في قلعة مصياف الأجزاء العليا منها ، و جعلها على مجموعتين جنوبية و شمالية و لكل منها باب منفصل عن الآخر ، تتألف المجموعة الجنوبية من أبراج مرتفعة و غرف متصلة فيما بينها بأبواب و ممرات تشكل كلها مجموعة معمارية متكاملة تتصل بالشرفة العليا / السطح / بواسطة ممر مزدوج بدرج يوصل إلى الشرفة العليا ، و يدخل إلى هذه المجموعة بواسطة باب زينت عتبته بكتابات عربية إسلامية كوفية حفرت ( بعد وفاة سنان ) و هي كالتالي : ((عمر هذا المكان المبارك المعظم الشاه شاه الملوك العلي على الدوام عز مولانا كمال الدين و الدنيا الحسن بن مسعود 624 هـ – 1226 م )) .
 أما المجموعة الشمالية فهي تتألف من باب يتصل بدرج منحوت من الأرضية التي بني بناء كامل عليها ، و التي تؤلف مجموعة غرف متصلة بعضها ببعض و بينها ممر يوصل إليها ، و يشكل بناء هاتين المجموعتين معا الطابق الخامس من القلعة ، و طراز بناءه مملوكي إسلامي ، و لما كان البناء بأكمله يتوضع فوق نتوء صخري الذي بنيت حوله القلعة ، فان الزلازل المتوالية أصابت هذا الجزء بتهديم مريع أدى لانهيار أجزاء كبيرة منه ، أما الشرفة العليا و هي عبارة عن كامل سقفي المجموعتين و هي محاطة بسور له فتحات خاصة بالمنجنيقات فقد تهدم معظمها و لم يبقى منها إلا القليل ، و يظهر في الشرفة برج يعتقد انه برج حمام الزاجل الذي كان يستخدمه الاسماعيليين فيما بينهم من القلاع المجاورة للتواصل و نقل الأخبار .
استكمل سنان بناء دولته من الداخل ، فعمل على تقوية مدينة مصياف اقتصاديا و تجاريا و أنشأ فيها سوقاً ( السوق القديم ) و خانات انتشرت بين داخل المدينة و خارجها لرعاية المسافرين ، و لتكون مكانا للتزود بالمياه و الطعام ، خاصة في الطرق المؤدية للمدن الأكثر نشاطاً مع مدينة مصياف تجاريا ( حمص – حماه – معرة النعمان ) . و رمم سور القلعة القديم ، و قام ببناء البيوت و الأحياء حول قلعة مصياف ، إذ لم تعد قلعة مصياف تستوعب العدد الكبير الوافد إليها باعتبارها عاصمة الدولة الإسماعيلية .
تصور لمدينة مصياف مع سورها التاريخي
تصور لمدينة مصياف مع سورها التاريخي
في شهر آب عام 1176م قرر صلاح الدين الأيوبي الاستيلاء على مدينة مصياف ، فخيم في محيط مدينة مصياف و لم تنطل عليه حيلة سنان راشد الدين الذي كان خارج أسوار المدينة لحظتها ، و الذي حاول استدراج صلاح الدين إلى الجبال القريبة من مصياف ، إلا أن أسوار القلعة و استبسال حاميتها بالدفاع عنها منع جيش صلاح الدين من اقتحام القلعة ، كما أن جدران القلعة الضخمة لم تسقطها منجنيقات جيش صلاح الدين ، و كان صلاح الدين يعرف أن الحصار هو الحل الوحيد أمامه لإسقاط مدينة مصياف و معها سنان ، فلو قام صلاح الدين بملاحقة سنان في هذه الجبال الوعرة لكان جنوده قد سقطوا الواحد تلو الآخر ، و كان سنان يراقب جيش صلاح الدين من أعلى قمة جبل المشهد العالي ، و كانت المراسلات بينهما لم تفضي إلى نتيجة فقرر قرن القول بالفعل ، و إرسال تهديد مباشر لصلاح الدين ، إذ كان صلاح الدين أثناء حصاره يقيم في الجنوب الشرقي من المدينة على بعد حوالي 400 متر فقط من باب المدينة الشرقي ( و الذي يسمى اليوم سوجق صلاح الدين و هو في الأصل خان لقوافل التجارة أنشئ زمن سنان راشد الدين ) فدخل إليه احد فدائيي الإسماعيلية ليلا و غير مواضع الفوانيس فيه و زرع خنجرا مسموما في وسادته و خبز الكماج ( خبز مصيافي معروف ) و قصيدة ممهورة باسم سنان راشد الدين يقول فيها :
قد قام قف إلى قاف يزعزعه

كضفدع تحت صخر رام يقلعــه
ما يســتحي ثعلب صغر همته

يرســـل إلى أسد الغابات يفزعه
إنــا منحناك ثوبـــاً للحياة فإن

كنت الشكور و إلا سوف نخلعه
و عندما استيقظ صلاح الدين و شاهد ذلك نادى على مستشاريه و حراسه و هو يقول لهم : ” لو أراد قتلنا لكنا الآن في عالم الأموات . فما ترون أن نفعل ؟ “ فأشار عليه خاله شهاب الدين الحارمي أمير حماه بالدخول بوساطة بينه و بين سنان للصلح (11) ، و قيل في روايات أخرى أن سنان هو من طلب ذلك من شهاب الدين ، و قيل أن صلاح استعجل الصلح ليذهب إلى البقاع التي كان الصليبيون يحضرون للاستيلاء عليها ، لكن ما هو مؤكد أن سلاماً خاصاً وقع بين صلاح و سنان في هذا العام ، و أكثر من ذلك فقد شكلت كتيبة من فدائيي الإسماعيلية في جيش صلاح ، كان لها دور كبير في نجاح حملة صلاح الدين نحو القدس و دخلت معه القدس في 2 تشرين الأول 1187م .
 كانت كتيبة الفدائية في جيش صلاح الدين لها دور كبير في معركة حطين و في معارك أخرى قبل ذلك ، خاصة عندما اغتال فدائيي سنان راشد الدين في 28 نيسان 1192 الكونت كونراد منمونفيراتو ملك القدس عندما كان في مدينة صور حيث تخفى الفدائيين بلباس الرهبان المسيحيين و شقوا طريقهم إليه(12) و في رواية أخرى كان في طرابلس .
توفي سنان عام 1193م و كان قد أوصى على أن يدفن في قمة جبل المشهد جانب الإمام أحمد الوفي المتوفي سنة 827 م ، الذي يقال أنه كتب و جمع رسائل أخوان الصفا و خلان الوفا ، و خلفه في زعامة الدولة ابنه محمد بن سنان و الذي سار على نهج والده في إدارة الدولة .
 مع بداية الحملة الصليبية السادسة قام قائد الحملة فريدرك الثاني بتقديم أموال على شكل جزية و هدايا للدولة الإسماعيلية عام 1227م ، ضماناً لعدم تعرض الاسماعيليين لهم ، لكن فرسان الاسبتارية ( فرسان القديس يوحنا ) قاموا بالهجوم على قلاع الدولة الإسماعيلية لينتهي المطاف باتفاق يجمع بين فرسان الاسبتارية و الاسماعيليين عام 1228م يقضي بدفع جزية من قبل الدولة الإسماعيلية مقابل حماية الاسبتارية لهم (13) .
مع بداية القرن الثالث ميلادي بدأت الأخبار تتوارد عن الحملات البربرية للمغول و عن المجازر التي خلفوها ورائهم في بغداد و غيرها من المدن ، فقام ( تاج الدين أبو الفتوح ) أمير مصياف حينها ببناء سور حول مدينة مصياف لحمايتها من المغول ، و أنهى بناءه عام 1249 م ، يعتبر سور المدينة من الأسوار القليلة المتبقية في سوريا عموما و الذي ما يزال قائما حتى تاريخ اليوم ، يبلغ ارتفاع السور المحيط بالمدينة بشكل متوسط بين 6 – 8 متر ، تبعا للارتفاع الطبوغرافي لكل منطقة ، بعرض متفاوت يصل إلى المتر في بعض المناطق خاصة من الجهة الشمالية و الغربية للمدينة ، بني من الحجر الغشيم المقضب تتفاوت أحجامه بشكل عام ، و كانت هذه الأحجار تأتي من المناطق القريبة لمكان البناء ، إذ أن المسح العام لسور مصياف يؤكد أن إنشاءه كان على عجل و بسرعة ، فالأحجار التي بنيت في المناطق الشمالية و الغربية من السور تختلف شكلا و نوعاً عن تلك التي بنيت في الشرق و الجنوب ، اخذ السور شكلا بيضويا إهليجيا يضم المدينة و القلعة على حد سواء ، بمساحة تقدر بـ 21 هكتار ، و السور الذي يضم القلعة و المدينة حاول قدر الإمكان احتواء السكن المنتشر في المنطقة الغربية و الغربية الجنوبية ، مع الاهتمام بترك مساحة خالية خوفا من وصول قذائف المنجنيقات إليها ، فالمسافة الفاصلة بين القلعة و السور من الجهة الشرقية تصل إلى 90 متر ، فيما تصل المسافة بين القلعة و السور من الجهة الغربية 300 متر و عن الجهة الشمالية 190 متر ، و تصل المسافة بين القلعة و بابها الجنوبي / القبلي 350 متر ، أنشئ للسور أربعة بوابات بالاتجاهات الأربعة ، سميت باسمها ( شمالي – غربي – شرقي – قبلي ) ، و كانت أيضا تسمى بأسماء المدن التي تصل إليها ، مثل باب القدموس و باب حماه و باب حمص ، و كانت هذه الأبواب مصممة بشكل عسكري واضح ، فقد أخذت شكل حرف N أو حرف Z كما هو واضح في الباب الجنوبي من المدينة ، و كانت ضيقة بحيث لا تسمح بمرور أكثر من 3 أشخاص معاً كما في الباب الغربي ، بغاية إبطاء تقدم العدو في حال اقتحام بوابات المدينة و السماح بتصيد العدو بطريقة بسيطة ، كان تاج الدين أبو الفتوح قد وضع اسمه في أعلى كل بوابة و تاريخ إنشاء السور كما هو الحال في الباب القبلي / الجنوبي و الباب الشرقي التي لا تزال قائمة حتى اليوم .
دخلت القوات المغولية مدينة حلب في كانون الأول 1259م و استبيحت المدينة لجنود هولاكو سبعة أيام ثم سقطت قلعتها في 25 كانون الثاني 1260م ، و وصلت الأخبار سريعا إلى باقي بلاد الشام عن المجازر و البلاء الذي حل بالمدينة ، و عن  حجم النهب و الخراب الذي طال المدينة على يد المغول ، تجهزت مدينة مصياف لمصيرها بعد انتهاء أعمال بناء السور لكن من غير المعروف إذا ما كان المغول قد دخلوا المدينة أصلاً ، أو أنهم دخلوها من غير تخريب ، إذ لا يوجد أي دليل على خرائب تلك الفترة ، لكنها بالتأكيد كانت ضمن مجال جيوشهم و حشودهم خاصة بعد استسلام دمشق لهم في شباط عام 1260 .
بعد سقوط المغول على يد المماليك في معارك حاسمة بدأت في شمال فلسطين قرب عين جالوت بقيادة الملك قطز بتاريخ 3 أيلول 1260م  ثم معركة حمص . خضعت مدينة مصياف و معها الدولة الإسماعيلية للملك الظاهر بيبرس ، و أصبحت تدفع له الجزية و الإتاوات كل سنة تحت مسمى ( الحقوق الديوانية ) في الوقت الذي كانت فيه تضمحل دولة الإسماعيليين و تفقد دورها و حضورها ، و رغم أن الظاهر بيبرس كان قد ترك مجالا لهذه الدولة بالبقاء فإنه لم يستمر بذلك طويلا ، ففرض على هذه الدولة تعيين قادتهم ، إذ أقال الظاهر بيبرس قائد الاسماعيليين نجم الدين حسن بن الشعراني ( بسبب رسالته إلى الظاهر بيبرس يطلب منه تخفيض الرسوم ) عام 1270م و عين بدلا عنه صارم الدين مبارك بن الرضي الذي كان يتولى شؤون العليقة
(14) لكن من قلعة الكهف و ليس من مدينة مصياف ( العاصمة ) التي خضعت مباشرة لإدارة الظاهر بيبرس ، إلى أن خضعت الدولة الإسماعيلية كاملة للظاهر بيبرس عام 1273 م ، إذ كان بيبرس بذكائه و قدرته قد فرغ هذه الدولة من مضمونها و سيطر عليها بشكل تدريجي بدل الدخول معها في مواجهة مباشرة كما فعل ذلك سابقا صلاح الدين الأيوبي .و إن غابت الإسماعيلية بشكل شبه نهائي عن هذه الدولة فإن الحصون و القلاع ظلت باقية كما كانت قبلهم رغم التحسينات التي أجروها ، و كان السلطان المنصور قلاوون يدرك أن هذه القلاع قد تستخدم ضده من جديد بسبب منعتها و حصانتها و موقعها فاشترط في هدنته في نيسان 1281م (15) مع قائد الاسبتارية و أمير طرابلس ( حيث أن الصليبيين كانوا لا يزالون يتحكمون في معظم الساحل السوري ) أن تكون قلعة الخوابي و الكهف و القدموس و في مقدمتهم مصياف بيد السلطان دون منازع . و هكذا اختفت مصياف بشكل تدريجي عن الخارطة السياسية و التاريخية للمنطقة و زادها ذلك دخول العثمانيين بعد معركة مرج دابق شمال حلب 24 آب 1516 م .
كانت فترة حكم الدولة العثمانية فترة غياب لمدينة مصياف بشكل كامل ، فقد غابت عنها الأخبار و الروايات و أصبحت مدينة منسية ، إذ كانت الضرائب تنهك السكان كما أن الجندية الإجبارية التي أطلق عليها اسم / أخذ العسكر / كانت سببا رئيسيا في هجرة الشباب و اختفائهم لسنوات حتى بلوغهم الأربعين عاماً ، خاصة في المرحلة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية ، و تأثرت مدينة مصياف بذلك تأثراً شديداً ، حتى انه لا يوجد الشيء الذي يذكر في فترة الدولة العثمانية سوى بعض الأثريات و الأبنية القديمة و ربما كان  أهمها السراي الحكومي الذي أقيم عام 1813م كمركز إداري للمدينة شغل فيما بعد بمركز قائم مقامية مصياف ، ثم أعيد بنائه و تحسينه في عام 1903 ، حيث يؤرخ ذلك حجر منقوش فوق باب السراي القديم ، و مركز البريد الذي أنشئ أيضاً في مرحلة متأخرة جداً من عمر الدولة العثمانية ، ولا تزال بعض المنازل القديمة في مصياف تحتفظ بشكل بنائها ذو الطابع الذي ساد في الحقب العثمانية المتتالية .
 كانت مدينة مصياف كسائر المدن لقيت حالة تهميش و تغييب كبيرين في عهد العثمانيين فأضحت مدينة شبه مهجورة تهدمت معظم أركانها ، و أصبت بلدة فقيرة هاجرها معظم سكانها و لم يبقى فيها إلا القليل من السكان ممن امتهنوا الزراعة البسيطة في محيط المدينة ، و ساد التخلف بين سكانها و أصبحت كمدينة جاءت من مجاهيل التاريخ ، فتهدم الكثير من بنائها الذي شيد في زمن قوة الدولة الإسماعيلية و انهارت الكثير من الأبنية و كان زلزالا قد مر بها .
و ما ذكره بعض الرحّال الذين مروا على مدينة مصياف و على رأسهم عبد الغني النابلسي عند مروره في مدينة مصياف في 13 تشرين الأول 1693م ، خير دليل على واقع خراب هذه المدينة حيث يقول : ” ….. فصعدنا في تلك القلعة و سورها منقلع بالتهدم أيّما قلعة و بتنا في برجها ذلك العالي ، و فيه بعض التماسك و لكن نهاره مظلم كليل من بعض الليالي ، ثم قلنا فيه بلسانه و فيه :

أتينا إلى المصياف و الوغر زائدٌ

من الحرِّ و الوعر الذي أتعب المتنا
ولم ندر هل في برج قلعتها نـرى

أم القبر بتنا حيث من تعبٍ مــــــتنا
 وهي بلاد قديمة البناء متكسرة الإناء ، و كان بانيها فيما وصل إلينا رجل من العلماء العاملين ، يقال له محمد أبو الفتوح و أسمه مكتوب على كل باب من أبوابها . وقد كانت عمارة سورها و قلعتها سنة ست و أربعين و خمسمائة ولها ثلاثة أبواب مفتوحات و باب مسدود و فيها جوامع خربة و مآذن كثيرة و غالب بيوتها خراب ، و قد جعلت بساتين و صحراوات ، و كان أميرها و يقال له المقدم سليمان فاجتمعنا به في حماه المحروسة ، و جئنا بصحبته إلى هذه القلعة مع جملة الناس حتى بتنا في أرغد عيش و أكمل سرور ” (16) .
أطلقت الدولة العثمانية في آخر مراحلها أسم ( العمرانية ) على مدينة مصياف اعتبارا من عام 1877م ، كما قامت بتغيير أسماء الكثير من المدن و البلدات ، إلا أن أبناء مصياف كانوا يتداولون اسمها بشكل شعبي غير رسمي ، و كانت مصياف تدار بشكل ذاتي ( إلا في الضرائب مثلا ) في ظل غياب الدولة العثمانية التي بدأت تتهاوى و تضعف و كان يتعاقب على إدارتها في تلك المرحلة الأمراء ابن بعد أبيه بعد الجد و هكذا و كانت إحدى غرف القلعة الفخمة هي مكان إدارة البلدة كتب على مدخل بابها ضمن نقش حجري الأبيات التالية :
فخـر المكــــــــان بـأهله

و الصدق من حسن الوفي
أمــسى المكــــان مباركا

ميرا تســــــــمى مصطفى
راجيـــــــاً من الله الكريم

عفوا بجـــــــــاه المصطفى
و اللــطف مــــرجو الإله

سـترا و عفــــــواً منصفى
و بفضله حســـــن الختام

بيوم عـرض المــــــــوقفى
إيوان كســـرى قد فنــــى

و نـوالـه هـذا كفـــــــــــــى
و الحجر مؤرخ بتاريخ 1208 هـ – 1793 م .
و كان آخر هؤلاء الأمراء هو الأمير محمد ابن الأمير مصطفى ابن الأمير ملحم ابن الأمير أحمد أبن الأمير مصطفى ( المذكور أسمه في هذا الحجر ) أبن الأمير إدريس ، و قد غادر الأمير محمد مدينة مصياف دون أن يعود إليها متوجها لمدينة حمص بعد دخول القوات الفرنسية إلى مصياف بتاريخ 1920 ميلادية .
مخطوط نادر بخط اليد
مخطوط نادر بخط يد الأمير مصطفى
كانت مصياف تتنقل إداريا بين عدد من الإيالات أثناء الاحتلال العثماني ، إذ كانت تتبع إيالة حلب ( الإيالة : تقسيم إداري أستخدم بدل كلمة نيابة التي كانت تستخدم قبل ذلك ، و كانت الإيالات تتبع لولايات ) ثم ألحقت بأيالة طرابلس الشام التي شكلت عام 1579 م ، و بقيت كذلك حتى أجري تحديث إداري كامل في جسد الدولة العثمانية عام 1877م و أعيدت كلمة ولاية بدلاً من أيالة ، و ضمت مصياف إلى ولاية بيروت ضمن سنجق طرابلس الشام أولاً ثم سنجق اللاذقية لاحقاً ضمن ذات الولاية .
دخل جيش محمد باشا ابن الوالي علي باشا في مصر سوريا محرراً إياها من الدولة العثمانية و وصل إلى حمص تموز 1832 ، و وجد مدينة مصياف مفتوحة أمامه بدون أية مقاومة ككثير من البلدات و المدن السورية التي وجدت فيه خلاصاً من العثمانيين ، حتى خرج منها بعد معاهدة لندن 1840م ، و بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى و انتصار الحلفاء على الدولة العثمانية دخلت القوات الفرنسية على السواحل السورية و سيطرت على كامل التراب السوري بعد معركة ميلسون المشهورة في 24 تموز 1920م ، و كانت القوات الفرنسية قد دخلت مصياف في 29 تشرين الثاني 1920 م من الجهة الشرقية للمدينة متقدمة من حماه ، و أقامت فيها حامية ضمن قلعة مصياف بعد أن أجلت منها القاطنين بها ، و كانت مصياف في تلك الفترة قد ألحقت بمدينة اللاذقية ( حتى قبل دخول القوات الفرنسية إليها ) إذ صدر قرار من الجنرال غورو بإنشاء مقاطعة اللاذقية و فصلها عن دمشق في محاولة لتقطيع أوصال بلاد الشام بشكل عام و ألحقت مدينة مصياف بمحافظة اللاذقية بتاريخ 1-9-1920 و بقيت كذلك حتى صدر قرار آخر بإنشاء دولة العلويين دولة مستقلة عن سوريا الأم في 1 كانون الثاني 1925 كما أنشأ دولة الدروز في الجنوب و كانت مصياف ضمن محافظة اللاذقية لتعود مجددا لحضن الدولة الأم في 5 كانون الأول 1936م .
كانت مصياف تدار من ضباط الاحتلال الفرنسي في تلك الفترة ،رغم وجود مجلس بلدي يدير شؤون البلدة في مقره القديم ،فيما كان الضباط الفرنسيين يقيمون في السراي الحكومي أو في القلعة ، و لا يعرف بالضبط أسماء الذين توالوا على مجلس بلدية مصياف ، لكن وثائق بلدية مصياف القديمة تشير إلى انه بتاريخ 16 نيسان 1927م تم تعيين أحمد الحلو رئيسا لبلدية مصياف ، و عين مصطفى القصاب رئيسا لبلدية مصياف في 3 تشرين أول 1928 .
تطورت مدينة مصياف في مرحلة ما بعد الاستقلال تطورا كبيرا و ازداد نمو سكانها و تمددت عمرانيا و تطورت حضاريا .
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق